سورة النساء - تفسير تفسير الثعلبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3) وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4) وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)}
{ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} يعني آدم {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} يعني حواء، ونظيرها في سورة الأعراف والزّمر {وَبَثَّ} نشر وأظهر {مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ} تسألون به، وخففه أهل الكوفة على حذف إحدى التائين تخفيفاً كقوله: {وَلاَ تَعَاوَنُواْ} [المائدة: 2] ونحوها، {والأرحام}.
قراءة العامة: نصب أي واتقوا الأرحام إن تقطعوها.
وقرأ النخعي ويحيى بن وثاب وطلحة بن مصرف وقتادة والأعمش وحمزة: بالخفض على معنى وبالأرحام، كما يقال: سألتك بالله والرحمن، ونشدتك بالله والرحمن، والقراءة الأولى أصح وأفصح، لأن العرب لا يكلأ بنسق بظاهر على المعنى، إلاّ أن يعيدوا الخافض فيقولون: مررت به وبزيد، أو ينصبون.
كقول الشاعر:
يا قوم ما لي وأبي ذويب ***
إلاّ أنه جائز مع قوله، وقد ورد في الشعر، قال الشاعر:
فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا *** اذهب فمالك والأيام من عجب
وأنشد الفراء لبعض الأنصار:
نعلق في مثل السواري سيوفنا *** وما بينها والكعب غوط نفانف
وقرأ عبد الله بن يزيد المقبري: {والأرحام} رفعاً على الابتداء، كأنه نوى تمام الكلام عند قوله: {تَسَآءَلُونَ بِهِ} ثم ابتدأ كما يقال: زيد ينبغي أن يكرم، ويحتمل أن يكون إغراء، لأن العرب من يرفع المغري.
وأنشد الفراء:
أين قوماً منهم عمير *** وأشباه عمير ومنهم السفاح
لجديرون باللقاء إذا قال *** أخو النجدة السلاح السلاح
{إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} أي حافظاً، قيل: بمعنى فاعل {وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ} الآية.
قال مقاتل والكلبي: نزلت في رجل من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم، فلما بلغ اليتيم طلب المال، فمنعه عمه فترافعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية، فلما سمعها العم قال: أطعنا الله وأطعنا الرسول، نعوذ بالله من الحوب الكبير فدفع إليه ماله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من يوق شح نفسه ويطع ربّه هكذا فإنه يحل داره» يعني جنته، فلما قبض الفتى ماله أنفقه في سبيل الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ثبت الأجر وبقي الوزر».
فقالوا: يا رسول الله قد عرفنا أنه ثبت الأجر فكيف بقي الوزر؟ وهو بقي في سبيل الله.
فقال: «يثبت الأجر للغلام وبقي الوزر على والده، وآتوا خطاب لأولياء اليتيم والأوصياء».
وقوله تعالى: {اليتامى} فلا يتم بعد البلوغ، ولكنه من باب الاستعارة، كقوله: {وَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ} [الأعراف: 120] ولا سحرة مع السجود، ولكن سمّوا بما كانوا عليه قبل السجود، وقوله: {وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ} أي من كانوا يتامى إذا بلغوا وآنستم منهم رشداً، نظيره: {وابتلوا اليتامى} [النساء: 2]، {وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب} يعني لا تستبدلوا مالهم الحرام عليكم بأموالكم الحلال لكم، نظيره قوله: {لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب} [المائدة: 100] واختلفوا في معنى هذا التأويل وكيفيته: فقال سعيد بن المسيب والنخعي والزهري والسدي والضحاك: كان أولياء اليتامى وأوصيائهم يأخذون الجيد والرفيع من مال اليتامى، ويجعلون مكانه الرديء والخسيس، فربما كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من مال اليتيم ويجعل مكانها الشاة المهزولة، ويأخذ الدرهم الجيد ويطرح مكانه الزيف، ويقول: درهم بدرهم، فذلك تبدلهم فنهاهم الله تعالى عنها.
عطاء: لا تربح على يتيمك الذي عندك وهو غر صغير.
ابن زيد: كان أهل الجاهلية لا يورّثون النساء والصبيان ويأخذ الأكبر الميراث.
وقال ابن زيد: {وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان} لا يورثوهن شيئاً فنصيبه من الميراث طيب وهذا الذي أخذه خبيث. مجاهد وباذان: لا تعجل الرزق الحرام قبل أن يأتيك الحلال.
{وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ} أي مع أموالكم، كقوله: {مَنْ أنصاري إِلَى الله} [آل عمران: 52، الصف: 14]. وأنشد المفضل سلمة بن الخرشب الأنصاري:
يسدون أبواب القباب بضمر *** إلى عنن مستوثقات نقاب الأواصر
أي مع غنن.
{إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} أي إثماً عظيماً، وفيه ثلاث لغات:
قرأه العامة: حُوباً بالضم، وهي لغة النبي صلى الله عليه وسلم وأهل الحجاز، يدل عليه ما روى أبو عبيد عن عباد بن عباد عن واصل مولى ابن عيينة قال: قلت لابن سيرين كيف يُقرأ هذا الحرف: إنه كان حوباً أو حَوباً؟ فقال: إن أبا أيوب أراد أن يطلق أم أيوب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن طلاق أم أيوب حُوب».
وقرأ الحسن: {حَوباً} بفتح الحاء وهي لغة تميم.
وقال مقاتل: لغة الحبش.
وقرأ أُبي بن كعب: {حاباً} على المصدر، مثل القال، ويجوز أن يكون اسماً مثل الراد والنار، ويقال للذنب حُوب وحَوب وحاب وللأذناب، كذلك يكون مصدراً واسماً، فقال: حاب يحوب حُوباً وحوباً وحاباً وحباية إذا أثم.
قال أبو معاذ: نزلنا منزلا قريباً من مدينة، فرمى رجل غطاية صغيرة فقيل له: يا حاج لا تقتلها فتصيب حوباً إنها لا تؤذي، ومنه قيل للقاتل حائب، حكاه الفراء عن بني أسد.
وقال أمية بن الأسكن الليثي وكان ابنه قد هاجر بغير إذنه:
وإن مهاجرين تكنفاه *** غداتئذ لقد خطئا وحابا
وقال آخر:
عض على شبدعه الأريب *** فظل لا يلحي ولا يحوب
وقال آخر:
وابن ابنها منا ومنكم وبعلها *** خزيمة والأرحام وعثاء حوبها
أي شديد إثمها.
وقال آخر:
فلا تبكوا عليَّ ولا تحنوا *** بقول الإثم إن الإثم حوب
{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى} الآية، اختلف المفسرون في تنزيلها وتأويلها:
فقال بعضهم: معناها وإن خفتم ألاّ تعدلوا يا معشر أولياء اليتامى فيهن، إذا تزوجتم بهن فانكحوا غيرهن من الغرائب اللواتي أحلهن الله لكم.
وروى الزهري عن عروة عن عائشة قال: قلت لها ما قول الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى} فقالت: يابن أخي هي اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها ويريد أن ينكحها بأدنى من صداقها فنهي أن تنكحوهن إلاّ أن تقسطوا لهن في إكمال الصداق، وأُمروا أن ينكحوا ما سواهنّ من النساء.
قال الحسن: كان الرجل من أهل المدينة يكون عنده الأيتام وفيهن من يحل له تزويجها فيقول لها: لا أدخل في رباعي أحداً كراهة أن يدخل غريب فيشاركه في مالهنّ، فربما يتزوجهن لأجل مالهن ومن لا يعجبنه ثم نسى صحبتهن ويتربص بهن أن يمتن فيرثهن، فعاب الله عزّ وجلّ ذلك وأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية.
عكرمة: كان الرجل من قريش يتزوج العشر من النساء والأكثر والأقل، فإذا صار معدما لما يلزمه من مؤن نسائه، مَالَ على مال يتيمته التي في حجره فأنفقه فقيل لهم: امسكوا عن النساء ولا تزيدوا على أربع حتى لا يخرجكم إلى أخذ أموال اليتامى، وهذه رواية طاوس عن ابن عباس، ومعنى رواية عطية عنه.
وقال بعضهم: كانوا يتحرجون ويتحوبون عن أموال اليتامى ويترخصون في النساء ولا يتعددون فيهن ويتزوجون ما شاؤا، فربما عدلوا وربما لم يعدلوا، فلما سألوا عن حال مال اليتامى أنزل الله {وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ} الآية، وأنزل أيضاً هذه الآية {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى} يقول: كما خفتم ألاّ تقسطوا في اليتامى وهمّكم ذلك، فكذلك فخافوا في النساء أن لا تعدلوا فيهن ولا تتزوجوا أكثر ممّا يمكنكم امساكهنّ والقيام بحقهن، لأن النساء كاليتيم في الضعف والعجز، فما لكم تراقبون الله عزّ وجلّ في شيء وتعصونه في مثله، وهذا قول سعيد بن جبير وقتادة والربيع والضحاك والسدي، ورواية الوالبي عن ابن عباس.
وقال الحسن أيضاً: تحرجوا من نكاح اليتامى كما تحرجوا من أموالهم، فأنزل الله هذه الآية، ورخص فيهن وقصر بهن على عدد، فعليكم العدل فيهن، فإن خفتم يا معشر الأولياء في اليتامى التي أنتم ولاتهن ألاّ تقسطوا، فأنكحوهن ولا تزيدوا على أربع، لتعدلوا، فإن خفتم ألاّ تعدلوا فيهن فواحدة.
قال ابن عباس: قصر الرجال على أربع من النساء من أجل اليتامى.
مجاهد: معناه إن تحرجتم من ولاية اليتامى فأموالهم إيماناً وتصديقاً، فكذلك تحرجوا عن الزنا، فانكحوا النساء الحلال نكاحاً طيباً، ثم بيّن لهم عدداً محصوراً وكانوا يتزوجون ما شاؤا من غير عدد، فأنزل الله {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ} أي أن لا تعدلوا.
وقرأها إبراهيم النخعي: {تَقسطوا} بفتح التاء وهو من العدل أيضاً.
قال الزجاج: قسط واقسط واحد، إلاّ أن الأفصح اقسط إذا عدل، وقسط إذا جار، وإن حملت قراءة إبراهيم على الجور وجعلت لا لغواً صحّ الكلام، واليتامى جمع لذكران الأيتام.
{فانكحوا مَا}.
قرأ إبراهيم بن أبي عبلة: {مَن} لأن ما لما لا يعقل ومَن لما يعقل، ومن قرأ {ما} فله وجهان:
أحدهما: أن ردّه إلى الفعل دون العين تقديره: فانكحوا النكاح الذي يحل لكم من النساء، وهذا كما تقول: خذ من رفيقي ما أردت والإخوان، تجعل {ما} بمعنى {من}، والعرب يعقب ما من ومن ما.
قال الله تعالى {والسمآء وَمَا بَنَاهَا} [الشمس: 5] وأخواتها، وقال: {فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ} [النور: 45] الآية.
وحكى أبو عمرو بن العلاء: أن أهل مكة إذا سمعوا الرعد قالوا: سبحان ما يسبّح له الرعد، وقال الله: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين} [الشعراء: 23].
{طَابَ} حل {لَكُمْ مِّنَ النسآء}.
وقرأ ابن أبي إسحاق والجحدري والأعمش {طاب}: بالإمالة وفي مصحف أُبيّ: {طيب} بالياء، وهذا دليل الإمالة.
{مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} معدولات عن اثنين وثلاث وأربع، فلذلك لا يصرفن، وفيها لغات موحد ومثنى ومثلث ومربع، وأحاد وثناء وثلاث ورباع، وأحد وثنى وثلث وربع، مثل عمر وزفر.
وكذلك قرأ النخعي في هذه الآية، ولا يزاد من هذا البناء على الأربع إلاّ بيتاً جاء عن الكميت:
فلم يستريثوك حتى رميت *** فوق الرجال خصالا عشاراً
يعني طعنت عشرة.
قالوا: وهاهنا بمعنى لو للتحقيق كقوله: {إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى} [سبأ: 46] وقوله: {أولي أَجْنِحَةٍ مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} [فاطر: 1] وهذا إجماع الأمة، وخصائص النبي صلى الله عليه وسلم غير مشتركة.
الكلبي عن خميصة بنت الشمردل: أن قيس بن الحرث حدثها أنه كان تحته ثمان نسوة حرائر، قال: فلما نزلت هذه الآية قلت: يا رسول الله قد أنزل الله عليك تحريم تزوج الحرائر إلاّ أربع حرائر وأن تحتي ثمان نسوة، قال: «فطلّق أربعاً وأمسك أربعاً». قال: فرجعت إلى منزلي فجعلت أقول للمرأة التي ما تلد مني يا فلانة أدبري وللمرأة التي قد ولدت يا فلانة أقبلي، فيقول للتي طلق أنشدك الله والمحبة قال: فطلقت أربعاً وأمسكت أربعاً.
{فَإِنْ خِفْتُمْ} خشيتم، وقيل: علمتم {أَلا تَعْدِلُوا} بين الأربع {فَوَاحِدَةً}.
قرأ العامة: بالنصب.
وقرأ الحسن والجحدري وأبو جعفر: {فواحدةٌ} بالرفع، أي فليكفيكم واحدة، أي واحدة كافية، كقوله عزّ وجلّ: {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان} [البقرة: 282].
{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يعني الجواري والسراري، لأنه لا يلزمكم فيهن من الحقوق والذي يلزمكم في الحرمة، ولا قسمة عليكم فيهن ولا وقت عليكم في عددهن، وذكر الإيمان بيان تقديره {أَوْ مَا مَلَكَتْ}.
وقال بعض أهل المعاني: {أو ما ملكت أيمانكم} أي ما ينفذ فيه أقسامكم جعله من يمين الحلف لا يمين الجارحة، واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم».
{ذلك أدنى} أقرب {أَلاَّ تَعُولُواْ}.
عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عزّ وجلّ: {ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ} قال: «ألاّ تجوروا».
وروى هشام بن عروة عن عائشة أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عزّ وجلّ: {ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ} أن لا تميلوا، وأكثر المفسرين على هذا.
قال مقاتل: هو لغة جرهم، يقال: ميزان عائل، أي مائل. وكتب عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى أهل الكوفة في شيء عاتبوه فيه: أني لست بميزان لا أعول.
وأنشد عكرمة لأبي طالب:
بميزان صدق لا يغل شعيرة *** له شاهد من نفسه غير عائل
وقال مجاهد: ذلك أدنى ألاّ تضلوا. وقال الفراء والأصم: أن لا تجاوزوا ما فرض الله عليكم، وأصل العول المجاوزة، ومنه عول الفرائض. وقال الشافعي: أن لا تكثر عيالكم وما قال هذا أحد غيره وإنما يقال: أعال يعيل إذا كثر عياله.
قال أبو حاتم: كان الشافعي أعلم بلغة العرب منّا ولعله لغة.
قال الثعلبي: قال أستاذنا أبو القاسم بن حبيب: سألت أبا عمرو الدوري عن هذا وكان إماماً في اللغة غير مدافع فقال: هي لغة حمير.
وأنشد:
وإنّ الموت يأخذ كل حيّ *** بلاشك وإن أمشى وعالا
أي كثرت ماشيته وعياله.
قال أبو عمرو بن العلاء: لقد كثرت وجوه العرب حتى خشيت أن آخذ عن لاحن لحناً.
وقرأ طلحة بن مصرف: ألاّ تعيلوا، وهو قوة قول الشافعي. وقرأ بعضهم: ألاّ تعيلوا من العيلة أي لا تفتقروا.
قال الشاعر:
ولا يدري الفقير متى غناه *** ولا يدري الغني متى يعيل
وقرأ طاووس: لا تعيلوا من العلة.
روى بشير بن نهيك عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل».
{وَآتُواْ النسآء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً}.
قال الكلبي وجماعة من العلماء: هذا خطاب للأولياء، وذلك أن ولي المرأة كان إذا زوّجها غريباً حملوها إليه على بعير ولا يعطونها من مهرها شيء، فإن كانت معهم في العشيرة لم يعطها من مهرها قليلا ولا كثيراً، وان كانت غريبة حملها على بعير إلى زوجها ولم يعطها شيئاً غير ذلك البعير، ولذلك كانوا يقولون لمن ولدت له بنت: هنيئاً لك النافجة، يريدون أنه يأخذ مهرها إبلا فيضمها إلى إبله فينتفجها أي يعظمها ويكثرها.
قال بعض النساء في زوجها:
لا تأخذ الحلوان من بناتها ***
تقول: لا يفعل ما يفعله غيره، فنهاهم الله عزّ وجلّ عن ذلك وأمرهم بأن يدفعوا الحق إلى أهله.
قال الحضرمي: كان أولياء النساء يعطي هذا أخته على أن يعطيه الآخر أخته لا مهر بينهما، فنهوا عن ذلك وأمرهم بتسميته وأمروا المهر عند العقد.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا شغار في الإسلام».
وقال آخرون: الخطاب للأزواج أُمروا بإيفاء نسائهن مهورهنّ التي هي أثمان فروجهنّ، وهذا أصح وأوضح بظاهر الآية وأشبه، لأن الله تعالى خاطب الناكحين فيما قبله، وهذا أصل خطابهم. والصَدُقات المهور واحدها صدقة بفتح الصاد وضم الدال على لفظ الجمع، وهي لغة أهل الحجاز وتميم.
يقول صُدقة بضم الصاد وجزم الدال، فإذا جمعوا قالوا: صُدقات بضم الصاد وسكون الدال، وصُدُقات بضم الصاد والدال مثل ظلمة وظلمات، وظلمات نظيرها المثلات، لغة تميم مثلة ومثلات ومَثُلات بفتح الميم وضم الثاء واحدتها مثلة على لفظ الجمع لغة الحجاز.
{نِحْلَةً} قال قتادة: فريضة واجبة، ابن جريج وابن زيد: فريضة مسمّاة. قال أبو عبيد: ولا تكون النحلة مسماة معلومة، الكلبي: عطية وهبة، أبو عبيدة: عن طيب نفس، الزجاج: تديناً، وفيه لغتان: نِحلة ونَحلة، وأصلها من العطاء وهي نصب على التفسير وقيل على المصدر.
روى مرثد بن عبد الله عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج».
وعن يوسف بن محمد بن عبد الحميد بن زياد بن صهيب عن أبيه عن جده صهيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أدان بدين وهو مجمع أن لا يفي به لقي الله عزّ وجلّ سارقاً، ومن أصدق امرأة صداقاً وهو مجمع على أن لا يوفيها لقى الله عزّ وجلّ زانياً».
{فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا} يعني فإن طابت نفوسهنّ بشيء من ذلك فوهبن منكم فنقل الفعل من النفوس إلى أصحابها، فخرجت النفس مفسرة، ولذلك وحَدَّ النفس، كما يقال: ضاق به ذرعاً وقرَّ به عيناً، قال الله تعالى: {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً} [العنكبوت: 33].
وقال بعض نحاة الكوفة: لفظها واحد ومعناها جمع، والعرب تفعل ذلك كثيراً.
قال الشاعر:
بها جيف الحسرى فأما عظامها *** فبيض وأما جلدها فصليب
وقال آخر:
في حلقكم عظم وقد شجينا ***
وقال بعض نحاة البصرة:
إذا ما دنا الليل المضى بذي الهوى ***
والهوى مصدر، والمصادر لا تجمع {فَكُلُوهُ} أي خذوه واقبلوه {هَنِيئاً مَّرِيئاً} قال الحضرمي: إن أُناساً كانوا يتأثمون أن يرجع أحدهم في شيء ممّا ساق إلى امرأته، فقال الله: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً} من غير إكراه ولا خديعة فكلوه هنيئاً مريئاً أي سائغاً طيباً، وهو مأخوذ من هنّات البعير إذا عالجته بالقطران من الجرب، معناه فكلوه هنيئاً شافياً معافياً، هنأني الطعام يهنيني بفتح النون في الماضي وكسره في الغابر يهنيني يهناني على الضد وهي قليلة، والمصدر منهما هنؤ يقال: هنأني ومرأني بغير ألف فيها، فإذا أفردوا قالوا: أمرأني بالألف وقيل الهنى الطيب المتاع الذي لا ينغصه شيء، والمرء المحمود العاقبة التام الهظم الذي لا يضر ولا يؤذي، يقول: لا تخافون في الدنيا مطالبة ولا في الآخرة تبعة، يدل عليه ما روى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل عن هذه الآية {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً} قال: «إذا جادت لزوجها بالعطية غير مكرهة لا يقضي به عليكم سلطان ولا يؤاخذكم الله تعالى به في الآخرة».
روى إبراهيم بن عيسى عن علي بن علي عن أبي حمزة قال: {هنيئاً} لا إثم فيه {مريئاً} لاداء فيه في الآخرة.
وروى شعبة عن علي قال: إذا ابتلى أحدكم شيئاً فليسأل امرأته ثلاثة دراهم من صداقها ثم يشتر به عسلاً، فليشربه بماء السماء فيجمع الله له الهنيء المريء والشفاء والماء المبارك. {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ التي جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَاماً} الآية.
اختلفوا في هؤلاء السفهاء من هم؟
فقال قوم: هم النساء.
قال الحضرمي: عمد رجل فدفع ماله إلى امرأته فوضعته في غير الحق، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
مجاهد: نهى الرجال أن يؤتوا النساء أموالهم وبين سفهاء من كن أزواجاً أو كن أو بنات أو أُمهات.
جويبر عن الضحاك: النساء من أسفه السفهاء، يدل على صحة هذا التأويل ما روى علي بن زيد عن القاسم عن أبي أُمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا إنما خلقت النار للسفهاء يقولها ثلاثاً ألا وإن السفهاء النساء إلاّ امرأة أطاعت قيّمها».
أبان عن ابن عياش عن أنس بن مالك قال: جاءت امرأة سوداء جريئة المنطق ذات ملح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: بأبي وأمي أنت يا رسول الله قُل فينا خيراً مرة واحدة، فإنه بلغني أنك تقول فينا كل شرّ. قال: «أي شيء قلت لكُنّ؟» قالت: سمّيتنا السفهاء في كتابه وسمّيتنا النواقص. فقال: «وكفى نقصاناً أن تدعن من كل شهر خمسة أيام لا تصلين فيهنَّ، أما يكفي إحداكنَّ إذا حملت كان لها كأجر المرابط في سبيل الله، وإذا وضعت كانت كالمتشحط بدمه في سبيل الله، وإذا أرضعت كان لها بكل جرعة كعتق رقبة من ولد إسماعيل، وإذا سهرت كان لها بكل سهرة تسهرها كعتق رقبة من ولد إسماعيل، وذلك للمؤمنات الخاشعات الصابرات اللاتي لا يكفرن بالعشير». قالت السوداء: يا له فضلاً لولا ما تبعه من الشرط.
وروى عاصم عن مورق قال: مرّت امرأة بعبد الله بن عمر لها شارة وهيبة فقال لها ابن عمر: {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ}. وقال معاوية بن قرة: عوّدوا نساءكم فإنهن سفيهات، إن أطعت المرأة أهلكتك.
وقال آخرون: هم الأولاد، وهي رواية عطية عن ابن عباس. قال الزهري وأبو مالك يقول: لا تعط ولدك السفيه مالك الذي هو قوامك بعد الله فيفسده، وقال بعضهم: هم النساء والصبيان. قال الحسن: هي امرأتك السفيهة وابنك السفيه. قتادة: أمر الله بهذا المال أن يُخزن فيحسن خزائنه ولا تملكه المرأة السفيهة ولا الغلام السفيه فيبذره، قال الله تعالى: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل} [البقرة: 188].
عبيد عن الضحاك: ولا تعطوا نساءكم وأبناءكم أموالكم فيكونوا عليكم أرباباً.
ابن عباس: لا تعمد إلى مالك الذي خوّلك الله تعالى وجعله لك معيشة فتعطيه امرأتك وبنيك، فيكونوا هم الذين يقومون عليك، ثم تنظر إلى ما في أيديهم، ولكن أمسك وأصلحه وكن أنت الذي تنفق عليهم في كسوتهم ورزقهم ومؤنتهم.
الكلبي: إذا علم الرجل أن امرأته سفيهة مفسدة وأن ولده سفيه مفسد، فلا ينبغي له أن يسلط واحداً منهما على ماله ليفسده.
وقال السدي: لا تُعط المرأة مالها حتى تتزوج وإن قرأت التوراة والإنجيل والقرآن، ولا تعط الغلام ماله حتى يحتلم.
وقال سعيد بن جبير وعكرمة: هو مال اليتيم يكون عندك، يقول: لا تؤته إياه، وأنفق عليه حتى يبلغ، فإن قيل على هذا القول: كيف أضاف المال إلى الأولياء فقال: {أموالكم} وهي أموال السفهاء؟ قيل: إنما أضاف إليهم لأنها الجنس الذي جعله الله أموالا للناس كقوله: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ} [التوبة: 128] وقوله: {فاقتلوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة: 54] ردّها إلى الجنس، أي الجنس الذي هو جنسكم.
وقال محمد بن جرير: إنما أضيفت إلى الولاة لأنهم قوامها ومدبروها، والسفيه الذي لا يجوز لوليه أن يؤتيه ماله، هو المستحق للحجر بتضييعه ماله وإفساده وسوء تدبيره.
روى الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري قال: ثلاثة يدعون الله فلا يستجيب لهم: رجل كانت تحته امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ورجل كان له على رجل دين فلم يُشهد عليه، ورجل أعطى سفيهاً ماله وقد قال الله {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ} أي الجهال بموضع الحق.
{أَمْوَالَكُمُ التي}.
قرأ الحسن والنخعي: اللاتي، وهما بمعنى واحد.
وأنشد:
من اللواتي والتي واللاتي *** زعمن أني كبرت لذاتي
فجمع بين ثلاث لغات.
قال الفراء: العرب تقول في جمع النساء: اللاتي، أكثر مما تقولون: التي، ويقولون في جمع الأموال وسائر الأشياء: التي، أكثر ممّا يقولون: اللاتي، وهما جائزان.
{جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَاماً} قرأ ابن عمر {قَواما} بالواو وفتح القاف كالدوام، وقرأ عيسى بن عمر {قِواما} بكسر القاف على الفعل، لأن الأصل الواو.
وقال الكسائي: هما لغتان ومعناهما واحد، وكان أبو حاتم يفرّق بينهما فيقول: القوام بالكسر الملاك، والقوام بالفتح امتداد القامة.
وقرأ الأعرج ونافع: {قِيّما} بكسر القاف.
الباقون: {قياماً} وأصله قواماً فانقلب الواو ياءً، لانكسار ما قبلها، مثل صيام ونيام، وهن جميعاً ملاك الأمر وما يقوم به الإنسان، يقال: فلان قوام أهل بيته، وأراد هاهنا قوام عيشكم الذي تعيشون به.
وقال الضحاك: به يقام الحج والجهاد وأعمال البر، وهي فكاك الرقاب من النار.
وقال بعضهم: أموالكم التي تقومون بها قياماً.
{وارزقوهم فِيهَا} أي أطعموهم {واكسوهم} لمن يجب عليكم رزقه ويلزمكم نفقته، والرزق من الله عزّ وجلّ عطية غير محدودة، ومن الناس الاجراء الموظف بوقت محدود، يقال: رزق فلان عياله كذا وكذا، أي أجرى عليهم، وإنما قال: فيها، ولم يقل: منها، لأنه أراد أن يجعل لهم فيها رزقاً، كأنه أوجب عليهم ذلك.
{وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} عدة جميلة.
وقال عطاء: {قولا معروفاً} إذا ربحت أعطيتك كذا وإن غنمت في غزاتي جعلت لك حظاً.
الضحاك: ردوا عليهم رداً جميلا.
وقيل: هو الدعاء.
قال ابن زيد: إن كان ليس من ولدك ولا ممّن يجب عليك نفقته فقل له قولا معروفاً، قل له عافانا الله وإيّاك بارك الله فيك.
وقال المفضل: قولا ليناً تطيب به أنفسهم، وكلما سكنت إليه النفس أحبته من قول أو عمل فهو معروف، وما أنكرته وكرهته ونفرت منه فهو منكر {وابتلوا اليتامى} الآية، نزلت في ثابت بن رفاعة وفي عمه، وذلك أن رفاعة توفى وترك ابنه ثابتاً وهو صغير، فأتى عمُ ثابت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن ابن أخي يتيم في حجري فما يحل لي من ماله، ومتى أدفع إليه ماله، فأنزل الله تعالى {وابتلوا اليتامى} أي اختبروهم في عقولهم وأبدانهم وحفظهم أموالهم {فَإِنْ آنَسْتُمْ} أبصرتم، قال الله: {آنَسَ مِن جَانِبِ الطور نَاراً} [القصص: 1].
قال الشاعر:
آنست نبأة وأفزعها القناص *** عصراً وقد دنا الإمساء
وفي مصحف عبد الله: فإن أحسنتم بمعنى أحسستم، فحذف إحدى السينين كقولهم: {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} [الواقعة: 65].
قال الشاعر:
خلا إن العتاق من المطايا *** أحسن به فهنّ إليه شوس
{مِّنْهُمْ رُشْداً}. قرأه العامة: بضم الراء وجزم الشين. وقرأ السلمي وعيسى: بفتح الراء والشين، وهما لغتان.
قال المفسرون: يعني عقلا وصلاحاً وحفظاً للمال وعلماً بما يصلحه.
قال سعيد بن جبير ومجاهد والشعبي: إن الرجل يأخذ بلحيته وما بلغ رشده فلا يدفع إلى اليتيم ماله وإن كان شيخاً، حتى يؤنس منه رشده.
قال الضحاك: لا يُعطى اليتيم وإن بلغ مائة سنة حتى يعلم منه إصلاح ماله.
ذكر حكم الآية:
اعلم أن الله تعالى علق زوال الحجر عن اليتيم الصغير وجواز دفع ماله إليه بشيئين: البلوغ والرشد، بعد أن أمر الأولياء بالابتلاء.
ومعنى الابتلاء على ما ذكره جماعة من الفقهاء: الصغير لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون غلاماً أو جارية، فإن كان غلاماً رُدَّ النظر في نفقة الدار إليه شهراً أو إعطائه شيئاً نزراً يتصرف فيه ليعرف كيف تدبيره وتصرفه فيه، وإن كان جارية رُدَّ إليها ما يُرد إلى ربّة البيت من تدبير بيتها والنظر فيه، وفي الاستغزال والاستقصاء على الغزالات في دفع القطن وأجرته واستيفاء الغزل وجودته، فإن رشدا وإلاّ بقيا تحت الحجر حتى يؤنس رشدهما، فأما البلوغ فإنه يكون بأحد خمسة أسباب، ثلاثة يشترك فيها الرجال والنساء واثنان يختص بهما النساء، والتي يشترك فيها الرجال والنساء: فالاحتلام وهو إنزال المني، فمتى أنزل واحد منهما فقد بلغ، سواء كان من جُماع أو احتلام أو غيرهما، والدليل عليه قوله: {وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم فَلْيَسْتَأْذِنُواْ} [النور: 59] وقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: «خذ من كل حالم ديناراً أوعدله من المعافر».
واختلف العلماء فيه، فقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد: إذا استكمل الصبي خمس عشرة سنة أو أنبت حكمنا ببلوغه.
وقال أبو حنيفة: إن كانت جارية فبلوغها سبع عشرة سنة، وعنه في الغلام روايتان:
أحدهما: تسع عشرة سنة، وهي الأشهر وعليها النظر.
وروى اللؤلؤي عنه: ثمان عشرة سنة. وقال مالك وداود: لا يبلغ بالسن ثم اختلفا، فقال داود: لا يبلغ بالسن مالم يحتلم ولو بلغ أربعين سنة، وقال مالك: بلوغه بأن يغلظ صوته أو تنشق أرنبته.
والدليل على أن حدّ البلوغ بالسن خمس عشرة سنة حديث عبد الله بن عمر قال: «عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أُحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فردني فلم يرني بلغت أي، وعرضت عليه عام الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني الله في المقاتلة».
والإنبات وهو أن ينبت: في الغلام أو الجارية الشعر الخشن حول الفرج.
وللشافعي في الإنبات قولان:
أحدهما: أنه بلوغ، والثاني: دلالة البلوغ.
وقال أبو حنيفة: لا يتعلق بالإنبات حكم، وليس هو ببلوغ ولا دلالة عليه.
والدليل على أن البلوغ بالإنبات متعلق بما روى عطية القرظي عن سعد بن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم حكّمه في بني قريظة قال: فمكثت أكشف عنهم فكل من أنبت قتلته، ومن لم ينبت جعلته في الذرّية.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة».
قال عطية: فكنت ممّن لم ينبت فجعلني في الذرّية.
وأما ما يختص به النساء: فالحيض والحبل، يدل عليه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يقبل صلاة حائض إلاّ بخمار» فجعلها مكلفة بالحيض، وهذا القول في حدّ البلوغ.
فأما الرشد: فقد اختلف الفقهاء فيه، فقال الشافعي: هو أن يكون صالحاً في دينه مُصلحاً في ماله، والصلاح في الدين أن يكون متجنباً للفواحش التي يفسق بها، وتسقط عدالته كالزنا واللواط والقذف وشرب الخمر ونحوها.
وإصلاح المال: أن لا يضيّعه ولا يبذّره ولا يغبن في التصرف غبناً فاحشاً، فالرشد شيئان: جواز الشهادة وإصلاح، المال وهذا قول الحسن وربيعة ومالك.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: إذا بلغ عاقلا مصلحاً لماله، زال الحجر عنه بكل حال، سواء كان فاسداً في دينه أو صالحاً فيه. فاعتبروا صلاح المال ولم يعتبروا صلاح الدين.
ثم اختلفوا فيه إذا بلغ عاقلا مفسداً لماله:
فقال أبو يوسف ومحمد: لا يزول الحجر عنه ويكون تصرفه باطلا إلاّ النكاح والعتق، ويبقى تحت الحجر أبداً إلى أن يظهر رشده.
وقال أبو حنيفة: إذا بلغ عاقلا زال الحجر عنه، فإن كان مفسداً لماله منع من تسليم ماله إليه حتى يبلغ خمساً وعشرين سنة، فإذا بلغها يسلّم المال إليه بكل حال، سواء كان مفسداً له أو غير مفسد. وقيل: إنّ في مدة المنع من المال إذا بلغ مفسداً ينفذ تصرفه على الإطلاق، وإنما منع من تسليم المال إليه احتياطاً لماله، فقال: وجه تحديده بخمس وعشرين سنة أنه قد يُحبل منه لاثني عشرة سنة ثم يولد له لستة أشهر ثم يُحمل لولده بأثني عشر سنة ثم يولد له لستة أشهر فيصير جداً.
قال: وأستحي أن أحجر على من يصلح أن يكون جدّاً، وإذا حصل البلوغ والرشد دفع المال إليه سواء تزوج أو لم يتزوج.
وقال مالك: إن كان صاحب المال جارية وتبلغ رشيدة، فالحجر باق عليها، وتمنع من مالها حتى تتزوج، وإذا تزوجت يسلّم مالها، إليها ولا يجوز لها أن تتصرف في مالها بغير إذن زوجها حتى تكبر وتجرّب ثم حينئذ يبعد تصرفها بغير إذنه، واطلاق في الغلام. والذي يدل على فساد هذا المذهب ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوم العيد ثم نزل فذهب إلى النساء فوعظهن فقال: «تصدقن ولو من حليكنَّ» فكنَّ تتصدقنَّ فجعلت المرأة تلقي حرصها وسخائها، فأمرهنَّ عليه السلام بالصدقة وقبلها منهنَّ، ولم يفصل بين متزوجة وغير متزوجة ولا بين من تصدقت بإذن زوجها أو بغير إذنه، فهذا القول في الحجر على الصغير، وبيان حكم قوله: {وابتلوا اليتامى}، فأما قوله: {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ} الآية.
حكم الكلام في الحجر على السفيه:
فاختلف العلماء فيه:
فقال أبو حنيفة ونفر: لا حجر على حر بالغ عاقل بوجه، ولو كان أفسق الناس وأشدهم تبذيراً. وهو مذهب النخعي، واحتجوا في ذلك بما روى قتادة عن أنس: أن حيان بن منقذ كان يخدع في البيع فأتى أهله النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن حيان بن منقذ يعقد وفي عقده ضعف فأحجر عليه.
فاستدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: «لا تبع» فقال: لا أصبر عن البيع، فقال له: «إذا بايعت فقل لا خلابه ولك الخيار ثلاثاً».
فلما سأله القوم الحجر عليه على ما كان في تصرفه من الغبن ولم يفعل، ثبت أنه لا يجوز.
قال الشافعي: إن كان مفسداً لماله ودينه أو كان مفسداً لماله دون دينه حجر عليه، وإن كان مفسداً لدينه مصلحاً لماله فعلى وجهين:
أحدهما: يحجر عليه، وهو اختيار أبي العباس بن شُريح.
والثاني: لا يحجر عليه، وهو اختيار أبي إسحاق المروزي، والأظهر من مذهب الشافعي، وهو الذي ذكرناه من الحجر على السفيه، قول عثمان وعلي والزبير وعائشة وابن عباس وعبد الله بن جعفر، ومن التابعين شُريح وبه قال من الفقهاء: مالك وأهل المدينة والأوزاعي وأهل الشام وأبو يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وادّعى أصحابنا الإجماع في هذه المسألة، ما روى هشام بن عروة عن أبيه: أنّ عبد الله بن جعفر ابتاع أرضاً سبخة بستين ألف درهم، فغبن فيها فأراد عليّ أن يحجر عليه، فأتى ابن جعفر إلى الزبير فقال: إني اشتريت وأن علياً يريد أن يأتي حبر المؤمنين فيسأله أن يحجر عليَّ.
فقال الزبير: أنا شريكك في البيع، فقال: عليَّ عثمان.
وقال علي: إن ابن جعفر اشترى كذا وكذا أحجر عليه. وقال الزبير: أنا شريكه في البيع، فقال عثمان: كيف أحجر على رجل في بيع شريكه فيه الزبير. فثبت من هذه القصة إجماع الصحابة على جواز الحجر، لأن عبد الله بن جعفر خاف من الحجر، والزبير احتال له فيما يمنعه منه، وعليّ سأل ذلك عثمان، وعثمان اعتذر إليه في الامتناع منه.
{وَلاَ تَأْكُلُوهَآ} يا معشر الأوصياء والأولياء بغير حقها {إِسْرَافاً} والإسراف مجاوزة الحد والإفراط والخطأ ووضع الشيء في غير موضعه، يقال: مررت بكم فسرقتكم، أي فسهوت عنكم وأخطأتكم.
قال جرير:
أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية *** ما في عطائهم منَ ولا سرف
أي خطأ، يعني أنهم يصيبون مواضع العطاء {وَبِدَاراً} مبادرة {أَن يَكْبَرُواْ} أن في محل النصب يعني لا تبادروا كبرهم ورشدهم حذراً أن يبلغوا فيلزمكم تسليمها إليهم، ثم بيّن ما يحل لهم من مالهم، فقال عز من قائل: {وَمَن كَانَ غَنِيّاً} عن مال اليتيم {فَلْيَسْتَعْفِفْ} عن مال اليتيم، فلا يجوز له قليلا ولا كثيراً، والعفة الامتناع ممّا لا يحل ولا يجد فعله، قال الله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً} [النور: 33].
{وَمَن كَانَ فَقِيراً} محتاجاً إلى مال اليتيم وهو يحفظه ويتعهده {فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} واختلف العلماء فيه:
فقال بعضهم: المعروف القرض، نظيره قوله: {إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ} [النساء: 114] يعني القرض، ومعنى الآية: تستقرض من مال اليتيم فإذا أيسر قضاه، فإن لم يقدر على قضائه فلا شيء عليه.
وقال به سعيد بن جبير وعبيدة السلماني وأبي العالية، وأكثر الروايات عن ابن عباس.
قال مجاهد: ليستسلف منه فيتجر فيه فإذا أيسر أدى، ودليل هذا التأويل ما روى إسرائيل وسفيان عن إسحاق عن حارثة بن مصرف قال: قال عمر بن الخطاب: ألا إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة مال اليتيم إن استغنيت استعففت فإن افتقرت أكلت بالمعروف وإن أيسرت قضيت.
وقال الشعبي: لا تأكله إلاّ أن تضطر إليه كما تضطر إلى الميتة.
وقال آخرون: {بالمعروف} هو أن يأكله من غير إسراف ولا قضاء عليه فيما يأكل، ثم اختلفوا في كيفية هذا الأكل بالمعروف:
فقال عطاء وعكرمة والسدي: يأكل بأطراف أصابعه ولا يسرف في الأكل، ولا يكتسي منه.
وقال النخعي: لا يلبس الحلل ولا الكتان، ولكن ما سدَّ الجوعة ووارى العورة.
وقال بعضهم: هو أن يأكل من ثمر نخيله ولبن مواشيه بالمعروف ولا قضاء عليه، فأما الذهب والفضة فلا، فإن أكله فلابد من أن يرده، وهذا قول الحسن وجماعة.
قال قتادة: كان اليتيم يكون له الحائط من النخل فيقوم وليّه على صلاحه وسقيه فيصيب من ثمرته ويكون له الماشية، فيقوم وليه على صلاحها وعلاجها فيصيب من جزازها وعوارضها، فأما رقاب المال وأصولها فليس له أن يستهلكها.
وقال الضحاك: المعروف ركوب الدابة وخدمة الخادم وليس له أن يأكل من ماله شيئاً.
وروى بكر بن عبد الله بن الأشج عن القاسم بن محمد قال: حضرت ابن عباس، فجاءه رجل فقال: يابن عباس إن لي أيتاماً ولهم ماشية، فهل عليَّ جُناح في رسلها وما يحل لي منها؟ فقال: إن كنت ترد نادتها وتبغي ضالتها وتهنأ جرباها وتلوط حوضها وتفرط لها يوم وردها، فاشرب من فضل ألبانها عنهم غير مضر بأولادها ولا تنهكها في الحلب.
قال بعضهم: المعروف هو أن يأخذ من جميع ماله، إذا كان يلي ذلك بقدر قيامه وخدمته وعمله وأُجرته، وإن أتى على جميع المال ولا قضاء عليه، وهذا طعمة من الله تعالى له وبه.
قالت به عائشة وجماعة من العلماء، وقال محمد بن كعب القرظي {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ}: عن مال اليتيم ولا تأكل منه شيئاً وأجره على الله {وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} يتقرم بتقرم البهيمة، وينزل نفسه بمنزلة الأجير فيما لابد له منه والتقرم: الالتقاط من نبات الأرض وبقلها، ودليل هذا التأويل ما روى ابن أبي نجيح عن المحسن العوفي عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن في حجري يتيماً أفأضربه؟ فقال: «ممّا كنت ضارباً منه ولدك» قال: يا رسول الله أفآكل من ماله؟ قال: «بالمعروف غير متأثل من ماله ولا واقياً مالك بماله».
وأصل المعروف ما تيسر على الإنسان فطابت نفسه به، قال الله تعالى: {مَتَاعٌ بالمعروف} [البقرة: 241].
{فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ} هذا أدب من الله تعالى، ليعلم أن الولي قد أدى الأمانة وينقطع عنه الظنّة وتزول عنه الخصومة وليس بفريضة {وكفى بالله حَسِيباً} محاسباً ومجازياً وشاهداً.


{لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10) يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)}
{لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون} الآية، وذلك أن أوس بن ثابت الأنصاري توفى وترك امرأة يقال لها: أم كحة وثلاث بنات له منها، فقام رجلان هما ابنا عم الميت ووصيّاه واختلف في اسميهما فقال الكلبي وقتادة: عرفطة، وقال غيره: سويد وعرفجة فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئاً وكانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصغير وإن كان ذكراً، وإنما كانوا يورثون الرجال الكبار، فكانوا يقولون: لا نعطي إلاّ من قاتل على ظهر الخيل وجاز القسمة قال: فجاءت أم كحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مسجد الفضيح فقالت: يا رسول الله إن أوس بن ثابت مات وترك عليَّ بنات له ثلاثاً وأنا امرأته وليس عندي ما أنفق عليهن، وقد ترك أبوهن مالا حسناً وهو عند سويد وعرفجة، فلم يعطياني ولا بناته من المال شيئاً وهنّ في حجري، ولا يطعمن ولا يسقين ولا يرفع لهن رأس. فدعاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله ولدها لا يركب فرساً ولا يحمل كلأ ولا ينكأ عدواً.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انصرفوا حتى أنظر ماذا يحدث الله لي فيهن»فانصرفوا فأنزل الله تعالى هذه الآية. {لِّلرِّجَالِ} يعني الذكور من أولاد الميت وأقربائه نصيب وحظ وسهم ممّا ترك الوالدان والأقربون من الميراث، والأناث لهن حصّة من الميراث.
{مِمَّا قَلَّ مِنْهُ} المال {أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً} حظاً معلوماً واجباً، نظيرها فيما قال: {لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً} [النساء: 118] وهو نصب لخروجه مخرج المصدر كقول القائل: لك عليَّ حق حقاً واجباً، وعندي درهم هبة مقبوضة، قاله الفراء.
وقال أبو عبيدة: هو نصب على الخروج، الكسائي: على القطع، الأخفش: جعل ذلك نصيباً فأثبت لهم في الميراث حقاً، ولم يبيّن كم هو.
فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سويد وعرفجة: «لا تفرّقا من مال أوس بن ثابت شيئاً، فإن الله تعالى جعل لبناته نصيباً ممّا ترك ولم يبين كم هو، حتى ننظر ما ينزل الله عزّ وجلّ فيهن»، فأنزل الله عزّ وجلّ {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ} إلى قوله: {وذلك الفوز العظيم} فلما نزلت أرسل رسول الله إلى سويد وعرفجة: «أن ادفعا إلى أم كحة الثمن ممّا ترك وإلى بناته الثلثين، ولكما باقي المال».
{وَإِذَا حَضَرَ القسمة} يعني قسمة المواريث {أُوْلُواْ القربى} الذين لا يرثون {واليتامى والمساكين فارزقوهم مِّنْهُ} أي فارضوهم من المال قبل القسمة، واختلف العلماء في حكم هذه الآية:
فقال قوم: هي منسوخة. وقال سعيد بن المسيب والضحاك وأبو مالك: كانت هذه قبل آية المواريث، فلما نزلت آية الميراث جعلت الميراث لأهلها الوصية ونسخت هذه الآية، وجعلت لذوي القربى الذين يحزنون ولا يرثون واليتامى والمساكين، وهذه رواية العوفي عن ابن عباس.
وقال آخرون: هي محكمة، وهو قول الأشعري والنخعي والشعبي والزهري ورواية عكرمة ومقسم عن ابن عباس. وقال مجاهد: واجبة على أهل الميراث ما طابت بها أنفسهم.
قتادة عن الحسن: ليست بمنسوخة ولكن الناس شحوا وبخلوا.
وروى عبد الرزاق عن معمّر عن هشام بن عروة: أن أباه أعطاه من ميراث مصعب حين قسم ماله، قاله الحسن.
وقال التابعون: كانوا يعطون التابوت والأواني وباقي المتاع والثياب، والشيء الذي يستحي من قسمته، فإن كان بعض الورثة طفلا، فاختلفوا:
فقال ابن عباس والسدي وغيرهما: إذا حضر القسمة هؤلاء، فإن كان الميّت أوصى لهم بشيء أنفدت لهم وصيته، وإن كانت الورثة كباراً رضخوا لهم، وإن كانت صغاراً اعتذروا إليهم، فيقول الولي والوصي: إني لا أملك هذا إنما هو لهؤلاء الضعفاء الصغار الذين لا يعقلون ما عليهم من الحق، ولو كان لي من الميراث شيء لأعطيتكم، وإن يكبروا فسيعرفون حقكم، وإن ماتوا فورثناهم أعطيناكم حقكم، وهذا هو القول المعروف.
وقال سعيد بن جبير: هذه الآية ممّا يتهاون به الناس، هما وليان: وليّ يرث وهو الذي يعطي ويكسي، ووليّ لا يرث وهو الذي يقال له قول المعروف.
وقال بعضهم: ذلك حق واجب في أموال الصغار والكبار، فإن كانوا كباراً تولوا إعطاهم، وإن كانوا صغاراً تولى إعطاء ذلك وليّهم.
روى محمد بن سيرين: أن عبيدة السلماني قسّم أموال أيتام فأمر بشاة فذبحت فصنع طعاماً لأهل هذه الآية، وقال: لولا هذه الآية لكان هذا من مالي.
روى قتادة عن يحيى بن يعمر قال: تلك آيات محكمات مدنيات تركهن الناس، هذه الآية وآية الاستئذان {ياأيها الذين ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم} [النور: 58] وقوله: {ياأيها الناس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى} [الحجرات: 13].
وقال بعضهم: هذا على الندب والاستحباب لا على الحَتم والايجاب، وهو أولى الأقاويل بالصواب.
وقال ابن زيد وغيره: هذا في الوصية لا في الميراث، كان الرجل إذا أوصى قال: فلان ماله أمر أن يوصي بثلث ماله لمن سمّى الله في هذه الآية.
وروى ابن أبي مليكة عن أسماء بنت عبد الرحمن وأبي بكر والقاسم بن محمد بن أبي بكر: أخبرا أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر قسّم ميراث أبيه عبد الرحمن وعائشة حيّةٌ، قالا: فلم يترك في الدار مسكيناً ولا ذا قرابة إلاّ أعطاهم من مال أبيه، وتلا هذه الآية {وَإِذَا حَضَرَ القسمة}.
قال القاسم: فذكرت ذلك لابن عباس فقال: ما أصاب، ليس ذلك له إنما ذلك في الوصية.
{وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ} الآية.
قال أكثر المفسرين: هذا في الرجل يحضره الموت فيقول من بحضرته عند وصيته: أُنظر لنفسك فإن أولادك وورثتك لا يغنون عنك شيئاً، فقدّم لنفسك اعتق وتصدق وأعط فلاناً كذا وفلاناً كذا حتى يأتي على عامّة ماله ويستغرقه ولا يبقي لورثته شيئاً، فنهاهم الله عزّ وجلّ عن ذلك وأمرهم أن يأمروه أن يُبقي لولده ولا يزيد في وصيته على الثلث ولا يجحف بورثته، كما لو كان هذا الميت هو الموصي، لسرّه أن يحثه من يحضره على حفظ ماله لولده ولا يدعهم عالة مع ضعفهم، ويجرهم إلى التصرّف والحيلة.
وقال مقسم الحضرمي: الرجل يحضره الموت فيقول له من بحضرته: اتق الله وأمسك عليك مالك فليس أحد أحق بمالك من أولادك، وينهاه عن الوصية لأقربائه ولليتامى والفقراء، ولو كان هذا هو الموصي لسرّه أن يوصي لهم.
وقال الكلبي: هذا الخطاب لولاة اليتامى يقول: من كان في حجره يتيم فليحسن إليه، فليقل وليفعل خيراً وليأت إليه ما يحب أن يفعل بذريته من بعده. وهي رواية عطية عن ابن عباس.
وقال الشعري: كنّا بالقسطنطينيّة أيام مسلمة بن عبد الملك وفينا ابن محبرين وابن الديلمي وهاني بن مكتوم، وجعلنا نتذاكر ما يكون في آخر الزمان، فضقت ذرعاً لما سمعت فقلت لابن الديلمي: يا أبا بشير عليّ ودّي أنه لا يولد لي ولد أبداً قال: فضرب بيده على منكبي وقال: يابن أخي لا تفعل فإنه ليست من قسمة كتب الله لها أن تخرج من صلب رجل إلاّ وهي خارجة شئنا أو أبينا، ألا أدلك على أمر إن أنت أدركته نجّاك الله منه، وإن تركت ولداً من بعدك حفظهم الله فيك؟ قلت: بلى فتلا هذه الآية، {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} والسديد العدل والصواب من القول {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً} الآية.
قال مقاتل بن حيان: نزلت في رجل من غطفان يقال له مرثد بن زيد، ولّي مال ابن أخيه وهو يتيم صغير فأكله فأنزل الله عزّ وجلّ فيه {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً} حراماً بغير حق {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} أخبر عن ماله وأخبر عن حاله، والعرب تقول للشيء الذي يؤدى إلى الشيء: هذا كذا لما يؤدى إليه.
مثل قولهم: هذا الموت، أي يؤدي إليه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الشارب من أواني الذهب والفضة: «إنما يجرجر في بطنه نار جهنم».
وقال عليه السلام: «البحر نار في نار» أي عاقبتها كذلك، وذكر البطون تأكيداً كما يقال: نظرت بعيني وقلت بلساني وأخذت بيدي ومشيت برجلي {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} وقوداً.
قرأه العامة بفتح الياء، أي يدخلون، تصديقها إلاّ من هو صال الجحيم، وقوله: {لاَ يَصْلاَهَآ إِلاَّ الأشقى} [الليل: 15].
وقرأ أبو رجاء والحسن وابن عامر وعاصم وأبو جعفر: بضم الياء، أي يدخلون النار ويحرقون نظيره، قوله: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر: 26] وقوله: {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً} [النساء: 30]. وقرأ حميد بن قيس: {وسيُصلّون} بضم الياء وتشديد اللام، من التصلية، لكثرة الفعل، أي مرّة بعد مرّة، دليله قوله: {ثُمَّ الجحيم صَلُّوهُ} [الحاقة: 31] وكل صواب، يقال: صَلَيت الشيء إذا شويته.
وفي الحديث: أتى بشاة مصلية، فاصليته ألقيته في النار، وصليته مرّة بعد مرّة، وصُلِيت بكسر اللام دخلت النار وتصلّيت استدفأت بالنار. قال الشاعر:
وقد تصليت حرَّ حربهم *** كما تصلّى المقرور من قرس
وقال السدي: يبعث آكل مال اليتيم ظلماً يوم القيامة، ولهب النار ودخانه يخرج من فيه وأذنيه وأنفه وعينيه، يعرفه كل من رآه يأكل مال اليتيم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «رأيت ليلة أُسري بي قوماً لهم مشافر كمشافر الإبل أحديهما عالية على منخريه وأخرى على بطنه، وخزنة النار يلقمونهم جمر جهنم وصخرها، ثم يخرج من أسافلهم، فقلت: يا جبرئيل من هؤلاء؟ قال: الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً».
{يُوصِيكُمُ الله}.
فصل في بسط الآية:
اعلم أن الوراثة كانت في الجاهلية بالرجولية والقوة، وكانوا يورثون الرجال دون النساء والأطفال، فأبطل الله عزّ وجلّ ذلك بقوله: {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ} وكانت الوراثة أيضاً في الجاهلية، وبدأ الإسلام بالمحالفة قال الله: {والذين عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} يعني الحلفاء {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} وأعطوهم حظهم من الميراث، ثم صارت بعد الهجرة، قال الله تعالى: {والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ} [الأنفال: 72] فنسخ هذا كله وصارت الوراثة على وجهين: بالسبب والنسب، فأما السبب فهو النكاح والولاء، وهذا علم عريض لذلك.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالفرائض فإنها نصف العلم وهو أول علم ينزع من أمتي».
ولا يمكن معرفة ذلك إلاّ بمعرفة الورثة والسهام، وقد أفردت فيه قولا وجيزاً جامعاً كما يليق بشرط الكتاب والله الموفق للصواب.
اعلم أن الميت إذا مات يبدأ أولا بالتجهيز ثم بقضاء ديونه ثم بإنفاذ وصاياه، فما فضل يقسّم بين الورثة، والورثة على ثلاثة أقسام:
منهم من يرث بالفرض، ومنهم من يرث بالتعصيب، ومنهم من يرث بهما جميعاً، فصاحب الفرض: من له سهم معلوم ونصيب مقدّر، مثل البنات والأخوات والأمهات والجدّات والأزواج والزوجات، وصاحب التعصيب: من يأخذ جميع المال عند عدم أصحاب الفروض، أو يأخذ الفاضل منهم ويكون محروماً إذا لم يفضل من أصحاب السهام شيء، مثل الأخ والعم ونحوهما، والذي يرث بالوجهين: هو الأب مع البنت وبنت الابن، يأخذ نصيبه المقدر وهو السدس، ثم يأخذ ما فضل منهما وجملة الورثة سبعة عشر، عشرة من الرجال: الابن وابن الابن وإن سفل والأب وأب الأب وإن علا والأخ وابن الأخ والعم وابن العم والزوج ومولى العتاق، ومن النساء سبع: البنت وبنت الابن والأم والجدّة والأخت والزوجة ومولاة العتاق، والذين لا يسقطهم من الميراث أحد الستة، الأبوان والولدان والزوجان.
والعلة في ذلك: أنه ليست بينهم وبين الميت واسطة، والذين لا يرثون بحال ستة: العبد والمدبّر والمكاتب وأم الولد وقاتل العمد وأهل الملتين، والسهام المحدودة في كتاب الله عزّ وجلّ ستة: النصف والربع والثمن والثلثان والثلث والسدس.
والنصف فرض خمسة: بنت الصلب، وبنت الابن إذا لم يكن بنت الصلب، والأخت للأب والأم، والأخت للأب إذا لم يكن الأخت للأب والأم، والزوج إذا لم يكن للميت ولد ولا ولد ابن.
والربع فرض اثنين: الزوج إذا كان للميت ولد أو ولد ابن، والزوجة والزوجات إذا لم يكن للميت ولد ولا ولد ابن.
والثمن فرض واحد: الزوجة والزوجات إذا كان للميت ولد أو ولد ابن.
والثلثان فرض كل اثنين فصاعداً ممّن فرضه النصف.
والثلث فرض ثلاثة: الأم إذا لم يكن للميت ولد ولا ولد ابن ولا اثنان من الأخوة والأخوات إلاّ في مسألتين: أحدهما زوج وأبوان، والأُخرى امرأة وأبوان، فإن للأم فيهما ثلث ما يبقى بعد نصيب الزوج، وهو في الحقيقة سدس جميع المال، والزوجة وهو ربع جميع المال، وفرض الاثنين من ولد الأم ذكورهم واناثهم سواء، وفرض الجدّ مع الأخوة والأخوات إذا كانت المقاسمة خيراً له من الثلث.
والسدس فرض سبعة: بنت الابن مع بنت الصلب، والأخت للأب مع الأخت للأب والأم، والواحد من ولد الأم، والأم إذا كان للبنت ولداً، وولد ابن أو اثنان من الأخوة والأخوات، وفرض الجدة والجدات وفرض الأب مع الولد وولد الابن [....] مع الابن وابن الابن، وأما العصبات فأقربهم البنون ثم بنوهم ثم بنو بنيهم وإن سفلوا [...] أخواتهم للذكر مثل حضّ الأُنثيين، ثم الأب وله ثلاثة أحوال: حال ينفرد بالتعصيب، وهو مع عدم الولد وولد الابن، وحال ينفرد بالفرض، وهو مع الابن أو ابن الابن، وحال يجمع له الفرض والتعصيب، وهو مع البنت وابنة الابن، ثم الجد إن لم يكن له أخوة، وإن كان له أخوة قاسمهم، ثم الأخوة والأخوات للأب والأم، ثم الأخوة والأخوات للأب يقسمون المال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، والواحدة منهن عصبة مع البنات، وسائر العصبات ينفرد ذكورهم بالتعصيب، دون الأناث، ثم بنو الأخوة للأب والأم، ثم بنو الأخوة للأب، ثم الأعمام للأب والأم، ثم الأعمام للاب، ثم بنو الأعمام للأب والأم، ثم بنو الأعمام للأب، ثم بنو الأعمام للأب والأم، ثم بنو الأعمام للأب، ثم أعمام الأب كذلك، ثم أعمام الجد، على هذا الترتيب لا يرث بنو أب أعلى وبنو أب أقرب منهم موجود، ثم مولى العتق، ثم عصبته على هذا الترتيب، فهذه جملة من هذا العلم.
رجعنا إلى تفسير الآية، اختلف المفسرون في سبب نزولها:
فأخبر محمد بن المنكدر أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: مرضت فعادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه وهما يتمشيان، فأُغشي عليَّ فدعا بماء فتوضأ ثم صبّه عليَّ فأفقت، فقلت: يا رسول الله كيف أمضي في مالي؟ كيف أصنع في مالي؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت فيَّ آية المواريث.
وقال عطاء: استشهد سعد بن الربيع النقيب يوم أُحد وترك امرأة وابنتين وأخاً، فأخذ الأخ المال فأتت امرأة سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن هاتين ابنتا سعد، وإن سعداً قُتل يوم أحد معك شهيداً، وإن عمّهما أخذ مالهما ولا ينكحان إلاّ ولهما مال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ارجعي فلعل الله سيقضي في ذلك»فأقامت حيناً ثم عادت وشكت وبكت، فنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلاَدِكُمْ} إلى آخرها.
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمّهما وقال: «أعطِ بنتي سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقي فهو لك»، فهذا أول ميراث قُسّم في الإسلام.
وقال مقاتل والكلبي: نزلت في أم كحة وقد مضت القصة.
وقال السدي: نزلت في عبد الرحمن أخي حسان الشاعر، وذلك أنه مات وترك امرأة وخمس أخوات، فجاء الورثة فأخذوا ماله ولم يعطوا امرأته شيئاً، فشكت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله آية المواريث.
وقال ابن عباس: كانت المواريث للأولاد وكانت الوصية للوالدين والأقربين، فنسخ الله ذلك، وأنزل آية المواريث، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لم يرض بملك مقرب ولا نبي مرسل حتى تولى قسم التركات وأعطى كل ذي حق حقه ألا فلا وصية للوارث» وقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ الله} أي يعهد إليكم ويفرض عليكم {في أَوْلاَدِكُمْ} أي في أمر أولادكم إذا متم {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين فَإِن كُنَّ نِسَآءً} يعني المتروكات {فَوْقَ اثنتين} فصاعداً يعني البنات {فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} و{فوق} صلة، كقوله عزّ وجلّ: {فاضربوا فَوْقَ الأعناق} [الأنفال: 12].
{وَإِن كَانَتْ} يعني البنت {وَاحِدَةً}.
قرأه العامة: نصب على خبر كان، ورفعهما أهل المدينة على معنى: إن وقعت واحدة، وحينئذ لا خبر له.
{فَلَهَا النصف} ثم قال: {وَلأَبَوَيْهِ} يعني لأبوي الميت، كناية عن غير المذكور {لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السدس مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ} أو ولدان، والأب هاهنا صاحب فرض {فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثلث} قرأ أهل الكوفة: {فلأمه} بكسر الهمزة، وقرأ الباقون: بالضم على الأصل.
{فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} اثنين كانا أو أكثر ذكراناً أو أناثاً {فَلأُمِّهِ السدس} هذا قول عامة الفقهاء، وكان ابن عباس لا يحجب الأم عن الثلث إلى السدس بأقل من ثلاثة أخوة، وكان يقول في أبوين وأخوين: للأم الثلث وما بقي فللأب، اتبع ظاهر اللفظ.
وروى: أن ابن عباس دخل على عثمان فقال: لِمَ صار الأخوان يردان الأم إلى السدس، وإنما قال الله عزّ وجلّ: {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} والأخوان في لسان قومك ليسا بأخوة؟
فقال عثمان: هل أستطيع نقض أمرٌ قد كان قبلي وتوارثه الناس ومضى في الأمصار. وقول ابن عباس في هذا غير مأخوذ به، وأما الآية فإن العرب توقع اسم الجمع على التثنية، لأن الجمع ضمُّ شيء إلى شيء، فأقل الجموع اثنان وأقصاها لا غاية له، قال الله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4].
وتقول العرب: ضربت من زيد وعمرو رؤوسهما فأوجعت من إخوتك ظهورهما.
وأنشد الأخفش:
لما أتتنا المرأتان بالخبر *** أن الأمر فينا قد شهر
قال الثعلبي: وأنشدني أبو القاسم الحبيبي قال: أنشدني أبو سعيد أحمد بن محمد بن رمح الزيدي:
ويُحيى بالسلام غني قوم *** ويبخل بالسلام على الفقير
أليس الموت بينهما سواء *** إذا ماتوا وصاروا في القبور
{مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ} قرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم: {يوصَى} بفتح الصاد، الباقون: بالكسر وكذلك الآخر.
واختلفت الرواية فيهما عن عاصم، والكسر اختيار أبي عبيد وأبي حاتم لأنّه جرى ذكر الميت قبل هذا، قال الأخفش: وتصديق الكسر يوصين ويواصون.
{آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً}.
قال مجاهد: في الدنيا، وقرأ بعضهم: {أيهما أقرب لكم نفعاً} أي رفع بالابتداء، ولم يعمل فيه ال {ما} قبله، لأنه استفهام و{أقرب} خبره و{نفعاً} نصب على التمييز، كأنه يقول: لا يدرون أي الوارثين والموروثين أسرع موتاً فيرثه صاحبه، فلا تتمنوا موت الموروث ولا تستعجلوه.
وقال ابن عباس: أطوعكم لله من الآباء والأبناء أرفعكم درجة يوم القيامة، لأن الله عزّ وجلّ يشفّع المؤمنين بعضهم في بعض، فإن كان الوالد أرفع درجة في الجنة من ولده رفع الله إليه ولده في درجته ليقرّ بذلك عينه، وإن كان الولد أرفع درجة من والديه رفع الله والديه إلى درجته ليقرّ بذلك عينيهما.
قال الحسن: لا تدرون بأيّهم أنتم أسعد في الدين والدنيا.
{فَرِيضَةً مِّنَ الله إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الربع مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ} يعني وللزوجات {الربع مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امرأة} نظم الآية: وإن كان رجل أو امرأة يورث كلالة، وهو نصب على المصدر، وقيل: على الحال، وقيل: على خبر ما لم يسمّ فاعله، تقديرها: وإن كان رجل يورث ماله كلالة.
وقرأ الحسن وعيسى: {يورِث} بكسر الراء جعلا فعلا له.
واختلفوا في الكلالة:
فقال الضحاك والسدي: هو الموروث. سعيد بن جبير: هم الورثة. النضر بن شميل: هو المال. واختلفوا أيضاً في معناه وحكمه: فروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الكلالة، فقرأ آخر سورة النساء، فردَّ عليه السائل فقال صلى الله عليه وسلم: «لست بزائدك حتى أُزاد».
وروى شعبة عن عاصم الأحول قال: سمعت الشعبي يقول: إن أبا بكر رضي الله عنه قال في الكلالة: أقضي فيها قضاءاً وأن كان صواباً فمن الله وإن يكن خطأ فمن الشيطان ومني، والله بريء منه: هو ما دون الوالد والولد، يقول: كل وارث دونهما كلالة قال: فلما كان عمر رضي الله عنه بعده قال: إني لأستحي من الله أن أُخالف أبا بكر: هو ما خلا الوالد والولد.
وقال طاوس: هو ما دون الولد. والحكم: هو ما دون الأب. عطية: هم الأُخوة للأُم. عبيد بن عمير: هم الأخوة للأب. وقيل: هم الأخوة والأخوات.
قال جابر بن عبد الله: قلت يا رسول الله إنما يرثان أُختان لي فكيف بالميراث؟ فنزلت: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة}.
وقال الأخفش: كل من لم يرثه أب أو أم فهو كلالة.
وقال أهل اللغة: هو من نكللهُ النسب إذا أحاط به كالإكليل.
قال أمرؤ القيس:
أصاح ترى برقاً أريك وميضه *** كلمع اليدين في حبّي مكلل
فسمّوا كلالة، لأنهم أحاطوا بالميت من جوانبه وليسوا منه ولا هو منهم، وأحاطتهم به أنهم ينسبون معه.
قال الفرزدق:
ورثتم قناة الملك غير كلالة *** عن ابني مناف عبد شمس وهاشم
وقال بعضهم:
وإن أبا المرؤ أحمى وله *** ومولى الكلالة لا يغضب
{وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} ولم يقل: (ولهما) وقد مضى ذكر الرجل والمرأة على عادت العرب إذا ذكرت اسمين ثم أخبرت عنهما كانا في الحكم سواء، ربّما أضافت إلى أحدهما وربما أضافت إليهما جميعاً، يقول: من كان عنده غلام وجارية فليحسن إليه وإليها وإليهما كلها جائز، قال الله عزّ وجلّ: {واستعينوا بالصبر والصلاة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} [البقرة: 45] ونظائرها، وأراد بهذا الأخ والأُخت من الأمر، يدل عليه قراءة سعد بن أبي وقاص: وله أخ أو أخت من الأم {مِّنْهُمَا السدس فَإِن كانوا أَكْثَرَ مِن ذلك فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي الثلث} بينهم بالسوية ذكورهم وإناثهم سواء {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ}.
قال علي عليه السلام: إنكم تقرؤون الوصيّة قبل الدين وبدأ رسول الله بالدين قبل الوصية. وهذا قول عامة الفقهاء، ومعنى الآية الجمع لا الترتيب {غَيْرَ مُضَآرٍّ} مدخل الضرر على الورثة.
قال الحسن: هو أن توصي بدين ليس عليه {وَصِيَّةً مِّنَ الله}.
وقرأ الأعمش: {غير مضار وصية من الله} على الإضافة. {والله عَلِيمٌ حَلِيمٌ}.
قال قتادة: إن الله عزّ وجلّ كره الضرار في الحياة وعند الموت ونهى عنه وقدر فيه، ولا يصلح مضارة في حياة ولا موت. وفي الخبر من قطع ميراثه في الجنة {تِلْكَ حُدُودُ} إلى قوله:


{وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)}
{واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة} يعني الزنا، وفي مصحف عبد الله الفاحشة {مِن نِّسَآئِكُمْ فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ} يعني من المسلمين {فَإِن شَهِدُواْ} عليها بالزنا {فَأَمْسِكُوهُنَّ} فأحبسوهن {فِي البيوت حتى يَتَوَفَّاهُنَّ الموت أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً} وإنما كان هذا قبل نزول الحدود، كانت المرأة في أول الإسلام لو أذنبت حبست في البيت حتى تموت؛ وإن كان لها زوج كان مهرها له، حتى نزلت قوله: {الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا} [النور: 2].
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة، والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام».
فنسخت تلك الآية بعض هذه الآية، وهو الإمساك في البيوت وبقي بعضها محكماً وهو الإستشهاد {واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ} يعني الرجل والمرأة، المذكر والمؤنث إذا اجتمعا قلب المذكر على المؤنث، والهاء راجعة إلى الفاحشة.
قال المفسرون: فهما البكران يزنيان {فَآذُوهُمَا} قال عطاء وقتادة والسدي: يعني عيّروهما وعنفوهما باللسان: أما خفت الله أما استحيت الله حين أتيت الزنا، وأشباهه. مجاهد: سبّوهما واشتموهما. ابن عباس: هو باللسان واليد كأن يوذي بالتعيير والضرب بالنعال.
{فَإِن تَابَا} من الفاحشة {وَأَصْلَحَا} العمل فيما بعد {فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ} ولا تؤذوهما، وإنما كان قبل نزول الحدود، فلما نزلت الحدود نسخت هذه الآية والإمساك من الآية الأولى بالرجم للبنت والجلد والنفي للبكر، والجلد في القرآن والنفي والرجم في السنة.
روى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني: إنما أخبراه أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما: يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله. وقال الآخر وهو أفقههما: أجل يا رسول الله أقضِ بيننا بكتاب الله وائذن لي في أن أتكلم؟ فقال: «تكلم». فقال: إن ابني كان عسيفاً على هذا قال مالك: والعسيف الأجير فزنا بامرأته، فأخبروني أن على ابني الرجم، فافتديت منه مائة شاة وبجارية، ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وإنما الرجم على امرأته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، أما غنمك وجاريتك فردَّ عليك، وجلد ابنك مائة وتغريبه عاماً».
وأمر أنيس الأسلمي أن يأتي إمرأة الرجل فان اعترفت رجمها، فاعترفت فرجمها.
روى الزهري عن أبي سلمة عن عروة بن الزبير: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه غرّب في الزنا ولم تزل تلك السنّة حتى غرَّب مروان في إمارته.
وروى الزهري عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله:
أن رجلا من أسلم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاعترف عنده بالزنا: فأعرض عنه ثم اعترف فاعترض حتى شهد على نفسه أربع مرات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنك مجنون؟» قال: لا، قال: «أحصنت؟» قال: نعم، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فرجم بالمصلّى، فلما أذاقته الحجارة فرَّ، وأدرك فرجمه حتى مات.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فيه خيراً ولم يصل عليه».
سليمان بن بريدة عن أبيه قال: جاء ماعز بن مالك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله طهّرني، قال: «ويحك إرجع فاستغفر الله وتب إليه» قال: فرجع غير بعيد وقال مثل ذلك، حتى إذا كانت الرابعة قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ممَّ أطهرك؟»قال: من الزنا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنك مجنون؟» وأخبر أنه ليس به جنون، فقال: «أَشَرِبَ خمراً»، فقام رجل فاستشمه فلم يجد منه ريح خمر.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أزنيت أنت؟»قال: نعم فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فرجم، وجاء النبي فقال: «استغفروا لماعز بن مالك»، فقالوا: أيغفر الله لماعز بن مالك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد تاب ماعز توبة لو قسّمت بين أمة لوسعتها».
وروى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب قال: لقد خشيت أن يطول الناس زمان حتى يقول قائل لا نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، ألا وإن الرجم حق على من زنا، إذا أحصن وقامت البينة أو الحمل أو الإعتراف، وقد قرأتها: الشيخ والشيخة فارجموهما البتة، ألا وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده.
{إِنَّمَا التوبة عَلَى الله} قال الحسن: يعني التوبة التي يقبلها الله، فتكون على بمعنى عند، أقامه مقام صفة.
قال الثعلبي: وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: سمعت أبا بكر بن عياش يقول: {على} هاهنا بمعنى (من) يقول: إنما التوبة من الله للذين يعملون السوء بجهالة، اختلفوا في معنى الجهالة: فقال مجاهد والضحاك: هي العمد.
وقال الكلبي: لم يجهل أنه ذنب ولكنه جهل عقوبته.
وقال سائر المفسرين: يعني المعاصي كلها، فكل من عصى ربّه فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته.
قتادة: اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأوا أنّ كل شيء عُصيَ به ربّه فهو جهالة، عمداً كان أو غيره.
وقال الزجاج: معنى قوله: {بِجَهَالَةٍ} اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية، نظيرها في الأنعام: {مَن عَمِلَ مِنكُمْ سواءا بِجَهَالَةٍ} [الأنعام: 54]، {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} معناه قبل أن يحبطون السوء بحسناته فيحبطها.
قال السدي والكلبي: القريب ما دام في صحته قبل المرض والموت.
عكرمة وابن زيد: ما قبل الموت فهو قريب.
أبو مجلن والضحاك: قبل معاينة ملك الموت.
أبو موسى الأشعري: هو أن يتوب قبل موته بفواق ناقة.
زيد بن أسلم عن عبد الرحمن السلماني قال: اجتمع أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله عزّ وجلّ يقبل توبة العبد قبل أن يموت بيوم».
قال الثاني: وأنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله عزّ وجلّ يقبل توبة العبد قبل أن يموت بنصف يوم».
قال الثالث: وأنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله عزّ وجلّ يقبل توبة العبد قبل أن يموت بضحوة».
فقال الرابع: وأنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله عزّ وجلّ يقبل توبة العبد ما لم يغرغر بنفسه».
خالد بن سعدان عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تاب قبل موته بسنة تاب الله عليه» ثم قال: «إن السنة لكثير، من تاب قبل موته بشهر تاب الله عليه» ثم قال: «إن الشهر لكثير، من تاب قبل موته بجمعة تاب الله عليه» ثم قال: «إن الجمعة لكثير، من تاب قبل موته بساعة تاب الله عليه» ثم قال: «إن الساعة لكثير، من تاب قبل موته قبل أن يُغرغر بها تاب الله عليه».
المسيب بن شريك عن عمرو بن عبيد عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما هبط إبليس قال وعزتك وعظمتك لا أُفارق ابن آدم حتى يفارق روحه جسده فقال الله عزّ وجلّ: وعزتي وعظمتي لا أحجب التوبة عن عبدي حتى يغرغر».
وعن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الشيطان قال وعزتك لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، قال الربّ تبارك وتعالى: وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لا أزال أغفر لهم ما استغفروا لي».
قال الثعلبي: وسمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت محمد بن عبد الجبار يقول: يقال للتائب المخلص في توبته ولو بمقدار ساعة من النهار أو بمقدار نفس واحد قبل موته: ما أسرع ما جئت.
{وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات} يعني المعاصي {حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت} ووقع في النزع {وَلاَ الذين يَمُوتُونَ} فحينئذ لا يقبل من كافر إيمانه ولا من عاص توبته {قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن} موضع {الذين} خفض يعني ولا الذين يتوبون {وَهُمْ كُفَّارٌ أولئك أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} أي هيّئنا، والاسم منه العتاد.
قال عدي بن الرقاع:
تأتيه أسلاب الأعزة عنوة *** قسراً ويجمع للحروب عتادها
وقال للفرس المعد للحرب: عتّد وعتد.
وقال الشاعر الجعفي:
حملوا بصائرهم على أكتافهم *** وبصيرتي يعدوا بها عتد وأي
{يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً} أي على كره منهن.
قال المفسرون: كان أهل المدينة في الجاهلية وفي أول الإسلام، إذا مات رجل وله امرأة جاء ابنه من غيرها أو قريبه من جنسه فيلقي ثوبه على تلك المرأة أو على خبائها، فصار أحق بها من نفسها ومن غيره، فإن شاء أن يتزوجها تزوجها بغير صداق، إلاّ بالصداق الأول الذي أصدقها الميت، وإن شاء زوجها من غيره وأخذ صداقها، ولم يعطها منه شيئاً، وإن شاء عضلها ومنعها من الازواج فطوّل عليها وضارها، لتفتدي نفسها بما ورتث من الميت، أو تموت هي فيرثها، وإن ذهبت المرأة إلى أهلها قبل أن يلقي عليها ولي زوجها ثوبهُ فهي أحق بنفسها، فكانوا يفعلون ذلك حتى توفى أبو قيس بن صلت الأنصاري وترك امرأته كبيشة بنت معن الأنصارية، فقام ابن له من غيرها يقال له: حصن.
وقال مقاتل بن حيان: اسمه قيس بن أبي قيس، فطرح ثوبه عليها فورث نكاحها، ثم تركها فلم يقربها ولم ينفق عليها يضارّها بذلك لتفتدي بمالها، وكذلك كانوا يفعلون إذا ورث أحدهم نكاحها، فإن كانت جميلة موسرة دخل بها، وإن لم تكن جميلة طوّل عليها لتفتدي منه، فأتت كبيشة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إن أبا قيس توفى وورث نكاحي ابنه وقد أضرّني حصن وطوّل عليّ فلا هو ينفق علي ولا يدخل بي ولا يخلي سبيلي، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقعدي في بيتك حتى يأتي فيك أمر الله»قالت: فانصرفت وسمعت بذلك النساء في المدينة، فأتين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مسجد الفضيح فقلن: يا رسول الله ما نحن إلاّ كهيئة كبشة غير أننا لم ينكحنا الأبناء وينكحنا بنو العم فأنزل الله تعالى {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ} الآية.
وقرأ الكسائي والأعمش ويحيى بن وثاب: بضم الكاف هاهنا وفي التوبة.
والباقون: بالفتح.
قال الكسائي: هما لغتان. وقال الفراء: الكره والإكراه، والكره المشقة، فما أُكره عليه فهو كَره بالفتح، وما كان من قبل نفسه وهو كُره بضم الكاف.
{وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ} كفعل أهل الجاهلية.
وعن الضحاك: نزلت هذه الآية في الرجل تكون في حجره اليتيمة، فيكره أن يزوجها لأجل مالها، فتكون تحته العجوز ونفسه تشوق إلى الشابة، فيكره فراق العجوز بتوقع وفاتها ليرثها مالها وهو معتزل لفراشها.
وقال ابن عباس: هذا في الرجل تكون لهُ المرأة وهو كاره لصحبتها، ولها عليه مهر فيطوّل عليها ويضارّها لتفتدي بالمهر أو يردّ إليه ما ساق إليها من المهر، فنهى الله عزّ وجلّ عن ذلك، ثم قال: {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} فحينئذ يحل لكم أضرارهن ليفتدين منكم وعضلهن، لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن، واختلفوا في الفاحشة:
فقال بعضهم: هي الزنا. قال الحسن: إن زنت حلَّ لزوجها أن يسألها الخلع. قال عطاء: كان الرجل إذا أصابت امرأته فاحشة أخذ منها ما ساق إليها وأخرجها، فنسخ ذلك بالحدود. وقال ابن مسعود والضحاك وقتادة: هي النشوز.
جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال: «اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف».
وقوله: {مُّبَيِّنَةٍ} بفتح الياء قاله ابن عباس وعاصم وابن كثير، الباقون: بالكسر.
{وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف}.
قال الحسن: رجع إلى أول الكلام يعني {وَآتُواْ النسآء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} {وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف}.
وقال بعضهم: هو أن يصنع بها كما يصنع له.
{فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شيئا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} وهو ولد صالح أو يعطفه الله عليها بعد ذلك، كذا قاله المفسرون.
مكحول الأزدي قال: سمعت ابن عمر يقول: إن الرجل يستخير الله فيختار له، فيسخط على ربّه عزّ وجلّ، فلا يلبث أن ينظر في العاقبة فإذا هو قد خير له.
{وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ} ما لم يكن من قبلها نشوز ولا اتيان فاحشة {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} وهو المال الكثير، وقد مرَّ تفسيره {فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً} أي من القنطار شيئاً {أَتَأْخُذُونَهُ} استفهام نهي وتوبيخ {بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} انتصابها من وجهين: أحدهما بنزع الخافض، والثاني بالإضمار، تقديره: تصيبون في أخذه بهتاناً وإثماً مبيناً، ثم قال: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ} على معنى الاستعظام، كقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} [البقرة: 28] {وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ}.
قال المفسرون: أراد المجامعة، ولكن الله كريم يكني بما شاء عمّا شاء، وأصل الإفضاء الوصول إلى شيء من غير واسطة.
{وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً}.
قال الحسن وابن سيرين والضحاك وقتادة والسدي: هو قولهم عند العقد: زوجتكها على ما أخذ الله للنساء على الرجال من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.
مجاهد: هو كلمة النكاح التي يُستحل بها الفروج وهي كقوله: نكحته. الشعبي وعكرمة والربيع: هو قوله: أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله.
فصل فيما ورد من الأخبار في الرخص في مغالاة المهر لقوله: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} عن عطاء الخراساني:قال خطب عمر إلى علي ابنته أم كلثوم وهي من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنها صغيرة، فقال عمر: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن كل نسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلاّ نسبي وصهري» فلذلك رغبت فيها. فقال علي رضي الله عنه: إني مرسلها إليك حتى تنظر إلى صغرها فأرسلها إليه، فجاءته فقالت: إن أبي يقول لك هل رضيت النحلة. فقال: رضيتها. قال: فأنكحه ابنته وصدقها عمر أربعين ألف درهم.
وعن ابن سيرين: إن الحسن رضي الله عنه تزوج بامرأة، فبعث إليها بمائة جارية مع كل جارية ألف درهم. وروى مرشد بن عبد الله البرني عن عقبة بن عامر الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خير النكاح أيسرهُ» وقال صلى الله عليه وسلم لرجل: «أترضى أن أُزوجك فلانة؟» قال: نعم، قال للمرأة: «أترضين أن أزوجك فلاناً؟» قالت: نعم، فزوج أحدهما بصاحبه، فدخل عليها الرجل ولم يفرض لها صداقاً ولم يعطها شيئاً، وكان ممّن شهد الحديبية وله سهم بخيبر، فلما حضرته الوفاة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد زوّجني بفلانة ولم أفرض لها صداقاً ولم أعطها شيئاً، وأني قد أعطيتها من صداقها سهمي بخيبر، فأخذت سهمها ذلك فباعته بمائة ألف. وعن ضمرة بن حبيب أن أم حبيبة كانت بأرض الحبشة مع جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأن رسول الله زوّجها فأصدق عنه النجاشي أربعمائة دينار.
وبه عن ابن سيرين عن ابن عباس أنه تزوج سليمة السلمية على عشرة آلاف درهم.
حماد بن سلمة عن ابن بشر أن عروة البارقي تزوج بنت هاني بن قبيصة على ألف درهم.
وعن غيلان بن جرير أن مطرفاً تزوج امرأة على عشرة ألف أواق.
فصل فيمن كره ذلك، والكلام في أقل المهر:
عن ابن سيرين قال: حدثنا أبو العجفا السلمي، قال: سمعت عمر وهو يخطب الناس فحمد الله واثنى عليه وقال: ألا لا تغالوا في صداق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم به النبي صلى الله عليه وسلم ما أصدق امرأة من نسائه ولا امرأة من بناته فوق اثنتي عشرة أوقية، ألا وإن أحدكم ليغلي بصدقة امرأة حتى يُبقي لها عداوة في نفسه، فيقول: كانت لك حلق القربة أو عرق القربة.
عروة بن الزبير عن عائشة أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يُمن المرأة تيسير صداقها وتيسر رحمها».
قال عروة: وأنا أقول من عندي من أول شؤمها أن يكثر صداقها.
سعيد بن يسار عن أبي هريرة قال: كان صداقنا مُذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أواق وهو أربعة دراهم.
ثابت البناني عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى على عبد الرحمن أثر صفرة وقال: «ما هذا؟» فقال: يا رسول الله تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بارك الله لك أولم ولو بشاة».
يقال: هي خمسة دراهم.
وعن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت: يا رسول الله إني قد وهبت نفسي لك فقامت قياماً طويلا، فقام رجل فقال: يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل عندك من شيء تصدقها إياه؟ قال: ما عندي إلاّ إزاري هذا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أعطيتها إياه جلست لا إزار لك فالتمس شيئاً فقال: ما أجد شيئاً. فقال:التمس ولو خاتماً من حديد، فالتمس فلم يجد شيئاً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل معك من القرآن شيء؟ قال: نعم، سورة كذا وسورة كذا، لسور سمّاها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: زوجتك بما معك من القرآن».
وعن عبد الله بن عامر عن أبيه: «أن رجلا تزوج امرأة على نعلين فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرضيت مالك بهاتين النعلين؟ قال: نعم فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم».
وعن أبي حدرد الأسلمي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم استعينه في مهر امرأة فقال: «كم تصدقها؟» قلت: مائتي درهم. فقال: «لو كنتم تغرفون من بطحان ما زدتم».
مسلم بن رومان عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أعطى في صداق ملء كفيه سويقاً أو تمراً فقد استحل».
وعن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج بامرأة على عشرة دراهم.
أحمد بن حنبل عن الحسن بن عبد العزيز قال: كتب إلينا ضمرة عن إبراهيم بن عبد الله الكناني أن سعيد بن المسيب زوج ابنته على درهمين.
وكيع عن يحيى بن عبد الرحمن بن أبي شيبة عن جدّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من استحل بدرهم فقد استحل» قال وكيع: في النكاح.
وعن عبد الله بن يزيد مولى الأسود أن رجلا تسرَّ جارية له فكرهها، فقال له رجل: هبها لي، فوهبها له فذكر ذلك لسعيد بن المسيب، فقال: إن الهبة لم تجز لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو أصدقها سوطاً لحلت.
المغيرة عن إبراهيم قال: السنة في الصداق الرطل من الورق، كانوا يكرهون أن يكون مهر الحرائر مثل مهور البغايا بالدرهم والدرهمان، ويحبون أن يكون عشرين درهماً.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8